كان من الطبيعي أن تعقب عرض فيلم (فتنة) المعادي للإسلام، من قبل اليميني الهولندي المتطرف، زعيم حزب الحرية خيرت فيلدرس، مجموعة من ردود الفعل المناوئة أو المساندة، التي قد تكون إما في صيغ مادية، من أعمال شغب واحتجاجات ومظاهرات وغير ذلك، وإما في صيغ معنوية، من آراء وأنشطة رمزية وبرامج دعائية ونحو ذلك، وهي ردود فعل جد عادية، لأنها تحدث في أي زمان وفي أي مكان، غير أن حصل ما لم يكن يتوقعه الجميع، من كلا الجانبين؛ من مؤيد لفكرة الفيلم وطرحه، ومعارض لها، من مسلمين خائفين على وضعيتهم في الغرب، وغير مسلمين خائفين من غضب الشارع الإسلامي وخلفياته، من مثقفين مسكونين بما تشهده منذ أمد العلاقة الإسلامية الغربية من مد وجزر، ومواطنين عاديين مشغولين بحوائجهم الاقتصادية والاجتماعية والمادية...
إن ما وقع يتجسد بجلاء في الإجماع غير المخطط بين أغلب الأطراف السياسية والفكرية والإعلامية والشعبية، على الرفض أو التحفظ من هذا الفيلم المسيء للإسلام، وهذا ما غيبه العديد ممن تناول هذا الحدث من المثقفين والإعلاميين العرب والمسلمين، أو أنه مر عليه مرار الكرام، فاتخذ أغلب ما كتب في هذه القضية الحساسة طابعا إخباريا محضا.
ترى ما هي تجليات ذلك الفشل الذي باء به هذا الفيلم الموسوم بـ (فتنة)؟ وما السر في الإجماع غير المبرمح، بين مختلف الأطياف على تباين أديانها وأعراقها وتوجهاتها، على عدم التناغم مع ما ورد في هذا الفيلم؟
بين الفشل الذريع وتدني الشعبية!
في الوقت الذي كان يتوقع من الجميع؛ سياسيين وإعلاميين ومتابعين، أنه بمجرد ما يعرض فيلم خيرت فيلدرس على الرأي العام الهولندي والعالمي، سوف يصعد سهم شعبيته بشكل صاروخي، حدث عكس ما كان في الحسبان، حيث انقلب السحر على الساحر، فانهارت قيمة الرجل في أعين الأغلبية، وتدنت بذلك شعبيته، ذلك ما أكده استطلاع للرأي تم مباشرة بعد عرض الفيلم، قام به البرنامج التلفزي المشهور (نوفا) في تعاون مع المجموعة البحثية العالمية (سينوفات)، إذ أنه إذا نظمت الآن الانتخابات البرلمانية الخاصة بالغرفة الثانية، فإن حزب فيلدرس سوف يفقد مقعدين!
وقد تضافرت عوامل شتى، ساهمت في هذا الاندحار الذي اعترى تجربة فيلدرس السياسية المتطرفة، وتتحدد أهمها في:
ضعف الفيلم التقني والموضوعي.
نضج وعي المسلمين.
عدم تجاوب المجتمع الهولندي مع الفيلم.
ضعف الفيلم التقني والموضوعي
إن المواطن الهولندي الذي ظل طوال شهور ينتظر على أحر من الجمر ظهور فيلم فيلدرس، تفاجأ عندما شاهد هذا الفيلم، بل وثمة من أصيب بالصدمة، لأنه ألفى نفسه أمام عمل لا يستحق كل هذا الترويج والدعاية والترهيب، كأنما هذا المدعي لا شأن له إلا الضحك على ذقون الملايين من المواطنين الهولنديين، الذين منهم من كان يحمل وعوده وأقاويله على محمل الجد، وإذا بهم بمجرد ما أزفت ساعة الكشف عن المفاجأة الكبرى، يجدون أنفسهم أمام مهزلة، وأي مهزلة! لا سيما وأنه يستخف بمشاعر ناس يوجد بين ظهرانيهم، من يتمتع بذائقة سينمائية رفيعة المستوى، لقنته كيف يميز بين السمين والغث من الأعمال الفنية، ومن ينفرد بملكة فكرية، تجعله يعلم عن الإسلام أكثر مما يعرفه المسلمون أنفسهم، فيأتي فيلدرس بعمل ملفق لا يستحق، فنيا، أن يطلق عليه فيلما، ليقنعهم بأن الإسلام يشكل أكبر خطر على الحضارة الغربية، إنها لعمري قمة السذاجة والسخرية، أصبح المواطن الهولندي لا يدري؛ أهو أمام تجربة سياسية حقيقية، أم أنه أمام كوميديا سوداء!
إن فيلم (فتنة) قد قدم عبر خمسة عشر دقيقة من العرض مجموعة من المشاهد، التي ما هي إلا مقاطع واقتباسات وصور من هنا وهناك؛ من أرشيف مختلف الوسائل الإعلامية الورقية والفضائية والرقمية، الغربية والعربية، ومن القرآن الكريم، ومن الصور الدنماركية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، مما دعا البعض إلى اتهام صاحب الفيلم بالسرقة والاستحواذ على الملكية الفكرية للغير دون طلب الإذن منهم، بل وأن صاحب الصورة الدنماركية أدان بشدة، كما جاء في جريدة الشعب الهولندية، سطو فيلدرس على صورته، التي بدأ وختم بها فيلمه، وتوظيفها بشكل متعسف، وقد صرح صاحب الصورة (كورت فيسترارد) شخصيا، لبرنامج (نوفا) بأن فيلدرس اعتدى على حقوق تأليفه عندما سرق تلك الصورة، حتى أن محام من رابطة الصحافيين الدنماركيين ينظر فيما سوف يتخذ من إجراءات قانونية معه.
ثم إن الصحافي الهولندي الذي كان قد أجرى حوارا مع ثيو فان خوخ قبل مقتله، رأى أن فيلدرس اقتبس من ذلك الحوار ووظف صوته دون أي استشارة معه، مما جعله يصف ذلك الفعل بالمذموم، كما أن الصورة التي وظفها في الفيلم على أنها لقاتل ثيو فان خوخ (محمد ب)، ليست له، وإنما للمغني الهولندي من أصل مغربي صلاح الدين، وقد كانت جريدة اليوم في يونيو 2007 استعملت تلك الصورة على أنها لمحمد ب، وقد قاضى محامو المغني الجريدة ماديا، التي نشرت اعتذارا رسميا حول ما صدر منها. كما كاتب صلاح الدين فيلدرس في الأمر، وقد اقتصر فيلدرس على الإشارة إلى أنه لم يستعمل تلك الصورة عمدا، مما دفع المغني إلى رفع شكاية بخصوص هذه القضية إلى المحكمة، لأن صاحب الفيلم وظف الصورة، دون أي استئذان له، بوعي فني ظاهر، مما أساء إليها.
هكذا فإن سلوك الاستحواذ الثابت على حقوق الغير التأليفية، يميط اللثام تماما عن طبيعة شخصية فيلدرس الانتهازية، التي لم تراع ممتلكات الغير الفكرية والفنية، فكيف لها مراعاة حقوق المواطنين العاديين، حيث أن الذي يسمح لنفسه بسرقة إبداع وأفكار غيره، لن يتوانى في سرقة ما هو أسهل من ذلك، ألا وهو أموال الشعب وثرواته. من هذا المنطلق، ألا يشكل مثل هذا السلوك مؤشرا حقيقيا على أن هذا السياسي لا يصلح مطلقا لإدارة الدولة أو قيادتها، أو حتى تمثيل شريحة معينة منها!
وما دام أن الغرض من كتابة هذه الورقة ليس تناول الفيلم في حد ذاته بالتحليل، وإنما تسليط الضوء على أثر مثل هذا العمل على السياق العام الذي أنتج فيه، ومدى الاستجابة أو النفور الذي تلقاهما، فلا مناص من الإشارة إلى جملة من مكامن الضعف الفني والموضوعي فيه، وهي كالآتي:
التعسف المقصود في توظيف النصوص القرآنية لغير ما أنزلت فيه، حيث لم تراع أسباب النزول، التي لا يعرف عنها فيلدرس شيئا، فذلك شأن العلماء والمفسرين، كما لم يؤخذ بعين الاعتبار السياق الذي جاءت فيه آيات القتال والجهاد، ثم أن دوافع الحروب التي قام بها المسلمون لم تلق أي أهمية، حيث كان الإسلام دوما في موقف المدافع، ولا يعمد إلى القتال إلا في آخر المطاف، أي بعد أن يعتدى عليه! وقد حضرت شخصيا لقاء خاصا حول فيلم فتنة، نظمته مقاطعة (سلوترفارت) بمدينة أمستردام، وذلك يوم 30 مارس 2007، أي يومين بعد نشر الفيلم، وقد جمع اللقاء فعاليات من مختلف الثقافات والأديان، من مسلمين ويهود ومسيحيين وبهائيين وهندوسيين وبوذيين وملحدين وعلمانيين وغير ذلك، حيث تسنت لي فرصة المشاركة في ورشة حوارية، حول ردود الفعل على الفيلم وما احتواه من مواد، ضمت حوالي 15 شخصا، كنت المسلم الوحيد فيها، وضحت في مداخلتي أنه أثناء قراءتنا للفيلم، ينبغي التمييز بين النص والسياق، فهذا الفيلم في الحقيقة، يقدم نصا بغير سياق، فالنصوص القرآنية صحيحة ونؤمن بها، لكن السياق الذي وردت فيه غير صحيح، أي ثمة نوع من الإسقاط المقصود والتوظيف الأيديولوجي لها، وقد نالت كلمتي احتفاء كبيرا، حيث أن أغلب الحاضرين لم يكونوا يدركون ذلك، فهم بمجرد ما يشاهدون لقطات الفيلم، يعتبرون أن الإسلام دين الدم والعنف والإرهاب، لكن كان هناك شخص يبلغ من العمر 81 عاما، دعم بقوة طرحي، فهو بمجرد ما شاهد الفيلم، أخذ نسخة من القرآن الكريم مترجمة إلى اللغة الهولندية، وحاول قراءة الآيات الموظفة في سياقها العام، فاكتشف أن فيلدرس تعسف على النص القرآني، عندما استعمله لغير الأسباب التي نزل من أجلها، وهذا ما يمكن أن يحصل كذلك للنص الإنجيلي أو التوراتي، وقد نصحتهم بمشاهدة فيلم (المفتنون) للرابطة الأوروبية العربية بهولندا، الذي جاء كرد فعل على فيلم فتنة، والذي وظف الآلية نفسها، عندما ربط نصوصا مسيحية وتوراتية بأحداث معاصرة.
فصل الأحداث عن السياق العام الذي وقعت فيه، فأعمال العنف التي شهدتها بعض العواصم الغربية والإسلامية، قد أجمع أغلب المسلمين على التنديد بها، ولكن مع ذلك ينبغي ربطها بمختلف العوامل التي هيأت لحدوثها، وهي عوامل يدرك حقيقتها كل إنسان على وجه الكرة الأرضية، إلا أن الترسانة الإعلامية الصهيونية تحاول جاهدة ذر الرماد في العيون. على هذا الأساس فإن ما حدث، يعتبر نتيجة منطقية لما يحدث في فلسطين والعراق وأفغانستان والعالم الإسلامي، حيث لا دخان بلا نار، ولا رد فعل بغير فعل، وقد أشار أحدهم في الورشة الحوارية التي حضرتها إلى أن الإنسان عندما يتعرض للاعتداء لا يبق مكتوف اليدين، بقدرما يعمد إلى الدفاع والمواجهة، وهذا ما حدث للهولنديين أنفسهم مع المد النازي، الذي مارس عليهم إرهابه الغاشم، فما كان عليهم إلا المقاومة والذود عن الوطن.
ثم إن لقطات خطباء الجمعة التي وظفها فيلدرس، ينبغي أن تفسر أولا في علاقتها مع باقي مكونات النصوص/الخطب التي وردت فيها، وليست مفصولة عنها، وثانيا في اتصالها مع الحدث الذي تتناوله، أما أن تختار من الخطبة العبارات التي تخدم هواك الأيديولوجي (فتفبركها!) حسب ما يحلو لك، فهذا عمل مسرحي أكثر مما هو فكري أو إعلامي أو حتى سياسي!
هذا بالإضافة إلى ما تمت الإشارة إليه أثناء الحديث عن السرقة الفكرية الموصوفة، التي مارسها فيلدرس على مجموعة من الفنانين والإعلاميين، أولا دون استشارة أي واحد منهم بخصوص توظيف عمله في فيلمه، وثانيا تعسفا على ما تم اجتزاؤه من أعمال الغير!
بناء على ما سلف، يتأكد أن عمل فيلدرس المعادي للإسلام، لا يستحق أن يطلق عليه اسم الفيلم، فهو لا يعدو أن يكون إلا مجرد تركيب (مونتاج) لمجموعة من المشاهد والصور الأرشيفية، التي اجتثت من سياقها الأصلي كي توظف لأجل أغراض مغايرة، أهمها الدعاية المبكرة لنفسه وحزبه وأيديولوجياه، لذلك فإن مثل هذا الفيلم لا يخدم المجتمع الهولندي المتعدد الثقافات في شيء، بقدرما يبث في أوساطه بذور العزلة والتنافر والكراهية، وهذا عززه تصريح رئيس الحكومة الهولندية السيد بالكانند الذي جاء فيه: "أنه لا هدف لهذا الفيلم غير تجريح المشاعر"، وقد أدركت ذلك الغالبية العظمى ممن تابع هذا الحدث، حيث شاهد الفيلم في اليومين الأولين حوالي ثلث ساكنة هولندا.
نضج وعي المسلمين في هولندا
لعله لأول مرة في تاريخ المسلمين في الغرب عامة، وفي هولندا خاصة، يتم التعامل مع قضية من العيار الثقيل بترو وتعقل ورباطة جأش، حيث في الوقت الذي كانت توقعات الحكومة الهولندية بمختلف أجهزتها، والإعلام الهولندي بشتى وسائطه، تشير إلى أن فيلم خيرت فيلدرس بمثابة الزيت التي سوف تسكب على النار، إذ بمجرد ما يتم نشره قد تتعرض هولندا لأعمال شغب حادة ولعمليات تفجير محتملة، لذلك كانت جهات القرار السياسي والأمني في هولندا على أحر من الجمر، تتوجس خيفة من تكرار نفس ما كان يحدث من فينة لأخرى، كلما اعترض أي مسلم السوء، وكيف لا الآن؟ والسوء أثقل وأمر!
لكن حصل ما لم يكن في حسبان الحكومة أو الإعلام أو الشعب الهولندي؛ حصل أن أبدى المسلمون مواقف متوازنة ورزينة، ترتبت عنها النتائج الآتية:
بعثرة أوراق فيلدرس وخططه الجهنمية، الذي كان ينتظر بشوق كبير غضب المسلمين وتوترهم، حتى يثبت للهولنديين مصداقية ما يتبناه من آراء ومباديء، ومن ثم يصعد منسوب شعبيته، حتى يضمن نتائج مرضية في الانتخابات القادمة.
مفاجأة الجهات الهولندية المسؤولة، التي كانت قبل عرض الفيلم متخوفة من العواقب الوخيمة، التي قد تتولد عنه، كأن يؤدي إلى ردود أفعال عنيفة من قبل بعض التيارات الإسلامية، غير أنها بعد عرض الفيلم تنفست الصعداء، لأن الفيلم لم يؤد إلى ما كانت تتخوف منه، هكذا خرجت هولندا من عنق الزجاجة، بعدما ظلت عالقة به طوال بضعة شهور من الترقب والتأهب، فتوقف الحديث عن وضعية الأزمة، ليحل محله الحديث عن تفعيل آلية الحوار بين الهولنديين الأصليين والهولنديين المسلمين.
تمتن وضعية المسلمين في هولندا وتحسنها النسبي، حيث أصبحت حالة المسلمين أفضل مما كانت عليه قبل أيام معدودات، رغم أن الإسلام يتلقى ضربات موجعة من كل حدب وصوب، إلا أنه عوض ما تسقطه تلك الضربات أو تبث فيه الهزال والوهن، فإنها تقويه وتمنحه مزيدا من الصلابة والمتانة، وقد بدأ الكثير من المسلمين؛ أفرادا وجماعات، يدركون أسرار المعادلة الجديدة التي يخوضون صراعها المحموم مع خصومهم المتعددين، من اليمينيين المتشددين والشواذ المثليين والملاحدة والمرتدين الجدد والمثقفين المتصهينين وغير ذلك، ومرد هذا التمتن وذلك التحسن، إلى تحلي المسلمين بالصبر الجميل، والابتعاد عن الرد بالمثل، واتباع الآليات الديمقراطية الغربية نفسها في مواجهة النوازل؛ كالمتابعة القانونية، والمظاهرات السلمية، واللقاءات الحوارية، والندوات الإعلامية، واللا اكتراث بكل ما من شأنه أن يسيء إلى الإسلام، وما إلى ذلك من الأساليب، التي أتت أكلها في زمن وجيز، جعل السياسيين والإعلاميين والمثقفين الهولنديين يجمعون على تثمين مواقف المسلمين من هذه الإساءة الجديدة.
هذا إن دل على شيء، فإنه يدل على أن المسلمين في هولندا قد استوعبوا، بشكل أو بآخر، المحن السياسية الماضية، التي هزت مكانتهم داخل المجتمع الهولندي، من جراء المواقف الرديئة التي صدرت عنهم آنذاك، وهي مواقف غالبا ما كانت تنبني على الانفعال والاندفاع، غيرة على ما كانت تتعرض له هويتهم الدينية والثقافية من حملات شعواء، بيد أنه الآن رأينا كيف استعد المسلمون بمنهجية مدروسة وعقلانية ثاقبة، للرد على إساءة فيلدرس الجديدة، على مختلف المستويات القانونية والسياسية والإعلامية، مما مكنهم من تجاوز هذه المحنة بطريقة حضارية فاجأت المجتمع الهولندي، بكل مكوناته الشعبية والرسمية والحزبية، ألا ينم ذلك عن نضج ما في وعي المسلمين في هولندا؟ وإن كان الأمر كذلك، كيف يتأتى لنا الحفاظ على هذا السلوك الراقي، الذي إن استمر فينا، استطعنا التحكم في زمام أمرنا، ومن ثم تنظيم أنفسنا أحسن؟
عدم تجاوب المجتمع الهولندي مع الفيلم
هكذا أدى فيلم فيلدرس، الذي جعل الواقع الهولندي طوال بضعة شهور وكأنه على فوهة بركان على وشك الانفجار، إلى عكس المتوقع، حيث انقلب السحر على صاحبه، فاختلطت أوراقه، وتبعثرت تكهناته، فبعدما كان بمثابة القدوة لبعض السذج والعنصريين، أصبح عرضة للتندر والتنقيص، وقد شاهد الجميع كيف تمت مناقشته، بأسلوب حاد، من قبل كل الأحزاب السياسية الهولندية في الغرفة الثانية، حقا أن ما قيل أثناء تلك المناقشة، ما هو، من جهة أولى، إلا ترديد وتكرار حرفي لما سبق وأن صرح به ممثلو تلك الأحزاب لمختلف وسائل الإعلام الهولندية، غير أنه، من جهة أخرى، يشكل إثباتا سياسيا وقانونيا من قبل النخبة السياسية والحزبية في هولندا، لرفضها القطعي لاستراتيجية العداء التي يمارسها فيلدرس على الأقلية المسلمة، وهي استراتيجية مرفوضة، سواء من قبل القانون الهولندي، أم من طرف ثقافة التسامح التي تميز المجتمع الهولندي.
وحتى يطلع القاريء أكثر على مواقف أهم الأحزاب السياسية الهولندية، وهي كلها مواقف إيجابية بالنسبة لوجود المسلمين في الغرب، نوردها فيما يأتي من النقاط:
موقف حزب العمال (PVDA): رأى رئيس فريق حزب العمال في البرلمان/الغرفة الثانية، أن خيرت فيلدرس يجرم من خلال فيلمه المعادي للقرآن عقيدة المسلمين، كما أنه يزرع بذلك الذعر في نفوس 15 مليون نسمة من المواطنين الهولنديين.
موقف الحزب المسيحي الديمقراطي (CDA): صرح رئيس فريق الحزب في البرلمان/الغرفة الثانية، أن فيلدرس لا يفكر إلا في نفسه، وأنه لا يأخذ الآخرين بعين الاعتبار! حيث أن هذا الفيلم شرير وفاسد ومسيء، لا يساهم بتاتا في مواجهة التطرف، ولا في اندماج المسلمين.
موقف حزب الاتحاد المسحي: وجد رئيس فريق الحزب أن فيلم فيلدرس فتنة، فظيع وينطوي على دعاية سياسية ذات أبعاد مضرة، ثم إنه لا يقدم أي حل لإشكالية اندماج المسلمين.
موقف الحزب اللبيرالي (VVD): ذهب زعيم الحزب إلى أن فيلدرس بمثابة "مسبب النزاعات"، وأنه سياسي لكن يشعل النيران، وأن فيلمه لا يتضمن أي حل لمسألة الاندماج.
موقف الحزب الاشتراكي :(SP) أكد زعيم الحزب الاشتراكي (جان ماراينيسن) أن هولندا صارت بسبب فيلدرس دولة لا يطاق العيش فيها!
موقف حزب اليسار الأخضر:(Groenlinks) حيث كانت قد وصفت زعيمة الحزب (فيمك هالسيما) فيلدرس بالأحمق، وأثناء المناقشة البرلمانية اعتبرته نبي الشر، الذي يحذر من الأسلمة، حيث أنه يخلط بين الإسلام والإرهاب، أو أنه يضعهما في سلة واحدة، فالإسلام، حسب رأيه، ليس دينا يشكل خطرا على الحياة فحسب، وإنما إيديولوجيا سياسية تدعو إلى العنف، هكذا فإنه، من خلال هذا الاتهام، قد يجعل من المسلم العادي الذي يؤمن بالله ويقرأ القرآن، شريكا في عمل العنف.
موقف حزب ديمقراطيي 66 (D66): حيث رأى ممثل هذا الحزب أن فيلدرس يقدم بأسلوب مسيء، وفي حوالي 16 دقيقة، صورة مطلقة حول دين كوني.
موقف الحزب البروتستاني (SPG): أكد ممثل هذا الحزب أن فيلدرس له الحق في أن يكشف عن الجوانب المظلمة في الإسلام، لكن دون إنكار السياق الذي وقعت فيه تلك الصور، ثم أنه في الحقيقة أن ليس كل المسلمين إرهابيين، ولو أن أغلب الإرهابيين مسلمون!
ما عدا حزب الحرية الذي يتزعمه فيلدرس، فإن جميع الأحزاب والتكتلات والتوجهات السياسية في هولندا أجمعت على رفض هذا الفيلم، أو التحفظ مما ورد فيه من إساءات ومغالطات، وعلى المنوال نفسه، تمضي مواقف باقي المكونات الاجتماعية والثقافية والدينية والاقتصادية الهولندية، التي ترى في هذا السياسي مجرد نشاز ينغص راحة المجتمع وتماسكه وتسامحه.
خلاصة القول...
إن السر في الإجماع بين مختلف الأطياف على تباين أديانها وأعراقها وتوجهاتها، على عدم التناغم مع هذا الفيلم، يفسر، بكل وضوح، بأنه يشكل خطرا على المجتمع الهولندي المتعدد الثقافات، ولا يساهم ولو ذرة في خدمة الواقع وطرح البدائل والتنقيب عن الحلول... وهذا أمر جد طبيعي، ما دام أن الفيلم صادر من سياسي شغله الشاغل هو استقطاب الرأي العام الهولندي ليس غير، مما سوف يمكنه من تسنم سلم النجاح السياسي، وهو يقتفي بذلك أثر خلفه بيم فورتاون، الذي تخلص منه المجتمع الهولندي بأسلوب سينمائي، وهو قاب قوسين أو أدنى من أن ينفرد بأغلبية أصوات الانتخابات الهولندية، فيشرع بذلك في تنفيذ خططه السياسية الجهنمية، التي كانت سوف تأتي على مكاسب الدولة التي ناضلت من أجلها طوال أربعة قرون! لكن حدث اغتياله المفاجيء والغامض، أعاد إلى المجتمع الهولندي سكينته وطمأنينته وتسامحه. غير أنه بظهور خيرت فيلدرس، بدأ يتكرر السيناريو القديم نفسه! مع وجود فارق معين، وهو أن المسلمين صاروا طرفا أساسيا في معادلة السيناريو الجديد، لذلك فالمهم ليس كيف سوف تكون نهاية هذا السيناريو، وإنما كيف يمكن لهم التعاطي معه بأسلوب حضاري خلو من العنف والتقوقع والصدام والإحباط، والكيفية التي تعامل به المسلمون مع حدث فيلم فتنة قمينة بأن تثبت بأن مسلمي هولندا على الدرب القويم، ومن سار على الدرب وصل!